مع توجُه كل الأنظار إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتصاعُد الاهتمام بالسياسات الكبرى في شرق آسيا، ظلت هناك دولة تحت الرادار دائماً، وهي منغوليا، الواقعة جغرافياً بين روسيا والصين، وهما الدولتان القويتان اللتان تنافسان الولايات المتحدة وحلفاءها حالياً على كل المستويات؛ إذ تغيرت في السنوات الأخيرة النظرة العالمية لمنغوليا، لتصبح إحدى دول التنافس بين المحوريْن الدولييْن الأساسييْن، ولاسيما في الاستثمار في الموارد المعدنية والأتربة النادرة بها، في وقت تقوم فيه منغوليا أيضاً بإجراءات لرفع مكانتها الدولية وإقامة علاقات مع دول فاعلة داخل آسيا وخارجها.
لقد كانت منغوليا قبل عام 1990 متحالفة بشكل وثيق مع الاتحاد السوفيتي، وكانت كل التجارة تقريباً معه، وغالبية مشروعات التنمية مُشترَكَة مع السوفييت. ولكن بدأت منغوليا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في تطوير سياساتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية؛ فاتجهت نحو الديمقراطية وتبنت اقتصاد السوق المفتوح وشجعت الاستثمار الأجنبي، وتدفقت عليها المساعدات من الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا والدول الأوروبية، بالإضافة إلى الدول الآسيوية المجاورة مثل: اليابان وكوريا الجنوبية والصين والهند.
وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، أصبحت منغوليا محل اهتمام أجنبي وشريكاً مُحتمَلاً للتعاون في مجال المعادن النادرة على وجه خاص؛ إذ تحتوي على موارد للطاقة ومعادن مهمة، أبرزها الرواسب المعدنية من النحاس والفحم والفلورسبار والذهب والحديد والنفط والتنجستين واليورانيوم والزنك.
ونظراً لتصاعد أهمية الموارد النادرة والرواسب المعدنية في الاقتصاد العالمي، تم اقتراح العديد من مشروعات المعادن النادرة في السنوات الأخيرة في منغوليا من جانب الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والصين، ولكن لا تزال هذه المشروعات قيد الدراسة والبحث نظراً للتكلفة العالية وعدم اليقين بشأن العائدات، علاوة على الأوضاع الجيوسياسية في شمال شرق آسيا.
ولا شك أن هذا الاهتمام الغربي ومن حلفاء الولايات المتحدة من الدول الآسيوية الرئيسية بمنغوليا قد أدى، في أحد أبعاده، إلى حرص الجارتين الكبيرتين، الصين وروسيا، على تعزيز علاقاتهما مع منغوليا وسط بيئة التنافس الدولي مع الغرب، ولاسيما في ظل الحرب الأوكرانية، وتصاعُد الخلافات الأمريكية الصينية. كما أن ثمة قواسم مشتركة وأسباباً عديدة تساعد الدول الثلاث على تعزيز التعاون رغم تنامي علاقات منغوليا مع بعض الدول الغربية والآسيوية الحليفة للولايات المتحدة.
العوامل الجغرافية والاقتصادية:
أول هذه الأسباب أنه يُنظَر لمنغوليا باعتبارها نقطة التقاء لقوى عظمى في النظام العالمي، فهي نقطة اتصال وتواصل بين الصين وروسيا، إذ تتوسطهما جغرافياً. وتشترك مع روسيا بحدود يبلغ طولها حوالي 3500 كيلومتر. أما الصين فقد اعترفت بمنغوليا في عام 1946، وهو ما مهَّد لها طريق عضوية الأمم المتحدة في عام 1961.
وتبقى منغوليا شريكاً استراتيجياً لكلتا الدولتين لاعتبارات عديدة، يأتي على رأسها الاحتياج الروسي الدائم لوجود علاقة إيجابية بين الدولتين، تفويتاً للفرصة أمام الولايات المتحدة لعدم استغلالها في تهديد العمق الجيوسياسي الروسي، فهي من المناطق التي يُحتمَل أن تكون منطقة ضغط كبرى على روسيا، وبالتالي يأتي إرضاؤها لمنغوليا في ضوء نظرة جيوسياسية أوسع للصراع مع الولايات المتحدة والغرب، وهو ما يفسر اعتماد منغوليا بنسبة شِبْه كاملة على إمدادات الطاقة الروسية.
كما ترى روسيا أن هناك قاسماً مُشترَكاً بينها وبين الصين ومنغوليا، يتمثل في الخصائص الثقافية والحضارية للدول الثلاث، وهو ما يُطلَق عليه "مثلث شمال شرق آسيا"، بحسب فلاديمير جرايفورنسكي من الأكاديمية الروسية للعلوم؛ وهذا يسهل التعاون البيني وإمكانية بناء تحالف مستقبلي بينهم، استناداً إلى تاريخ طويل من العلاقات السياسية والتجارية والاقتصادية والثقافية في زمن السلم والحرب على حد سواء.
وينطبق الحال نفسه بالنسبة للصين، إذ يُمكِن للولايات المتحدة استغلال منغوليا في حربها الاقتصادية مع الصين، وهو ما يجعل الصين أكثر حرصاً على أن تظل الشريك التجاري الأول بالنسبة لمنغوليا، إذ تبقى الصين شريكاً لا يُقدَّر بثمن بالنسبة لمنغوليا؛ لأنه على الرغم من استمرارها في الاعتماد على روسيا في واردات الكهرباء والمنتجات النفطية المُكرَّرة، فإن الصين تبقى الشريك المسيطر على صادرات وواردات منغوليا بسبب قربها الجغرافي. وهناك أكثر من 7543 شركة صينية مسجلة في منغوليا، وتوجد لجنة صينية منغولية مشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي. وفي أكتوبر 2023، التقى الرئيس المنغولي، أوخنا خوريلسوخ، الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وناقشا مبادرة الحزام والطريق واستراتيجية التنمية المنغولية المعروفة باسم (برنامج طريق السهوب). هذا البرنامج، الذي تم إنشاؤه في عام 2014، وهو محاولة لزيادة النقل والتجارة في منغوليا. ويُعد الطريق السريع الذي يبلغ طوله 997 كيلومتراً ويربط بين الصين وروسيا أحد المعالم البارزة حالياً في هذا البرنامج.
المتغيرات الدولية:
لا تزال تداعيات الحرب في أوكرانيا مستمرة وتلقي بظلالها تارة على مسألة تعزيز العلاقات بين الصين وروسيا، وتارة أخرى على الحاجة المتنامية لبناء تحالفات جديدة اقتصادية وسياسية في واحدة من أكثر المناطق تأثراً بما يجري على الأرض مثل شمال شرق آسيا، والتي تضم كلاً من (الصين، روسيا، اليابان، منغوليا، وكوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية). فمع دخول العقوبات الاقتصادية على روسيا حيز التنفيذ منذ مارس 2022، خاصةً ما يتعلق منها بوضع قيود على الصادرات والواردات، تأثرت دول مثل: الصين واليابان ومنغوليا جراء فرض هذه العقوبات بصورة غير مباشرة، عن طريق اضطراب سلاسل الإمداد الغذائية، فضلاً عن القضايا المتعلقة بالطاقة والأمن، وهو ما يدفعهم للبحث عن فرص استثمار آمنة وسريعة لتعويض الخسائر الناجمة عن تداعيات الحرب في أوكرانيا من ناحية، ولكسب أرض في ظل عالم جديد متعدد الأقطاب أو في طريقه ليكون كذلك من ناحية أخرى.
بالنسبة لروسيا، لا تزال حُزمة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تشكل تحدياً بسبب رفع كلفة الحرب الجارية في أوكرانيا، خاصة تلك المتعلقة بتوريد الطاقة واضطرار العديد من الدول إلى توفير بدائل محلية قدر المستطاع. أما بالنسبة للصين، فقد استوردت المزيد من المواد الغذائية من اليابان بصورة غير مسبوقة بلغت نحو 1.93 مليار دولار بزيادة حوالي 35% عن العام السابق. ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لمنغوليا، إذ ارتفعت بها أسعار الغذاء والطاقة بزيادة بلغت نحو 66% في خلال عام واحد، فهي تعتمد بنسبة 100% من وقود الديزل على سبيل المثال، على روسيا، وهو ما يجعلها أكثر عُرضة للتأثر بأي اضطراب سياسي أو اقتصادي تمر به روسيا.
إرهاصات تحالف طاقوي:
لا يرتبط تزايُد الاهتمام الصيني الروسي المشترك بتعزيز العلاقات مع منغوليا بمحاولة الولايات وحلفائها التقارب معها فقط، ولكن يرتبط كذلك بمشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي (قوة سيبيريا 2) الذي جرى النقاش بشأنه مجدداً بين الرؤساء بويتن وشي وخوريلسوخ، في بكين، أثناء حضور منتدى الحزام والطريق الثالث في شهر أكتوبر 2023. هذا الخط – في حالة إنشائه إذا تم التغلب على العقبات الحالية بين روسيا والصين- سوف ينقل حوالي 50 مليار متر مكعب إضافية سنوياً من الغاز من أقصى شرق روسيا إلى الصين، مروراً عبر أراضي منغوليا، وسيتطلب بالتالي تعاوناً وثيقاً بين الدول الثلاث، بما في ذلك المجال الأمني.
ويُعد هذا الخط امتداداً لمشروع خط (قوة سيبريا 1)، وهو أكبر خط أنابيب لنقل الغاز من شرق سيبيريا في الأراضي الروسية إلى المستهلكين الروس في أقصى شرق البلاد وإلى الصين، إذ يبلغ طوله نحو 3 آلاف كيلومتر. وقد افتتح الخط في نوفمبر 2019 بعد إبرام اتفاق لمدة 30 عاماً بين شركة "غازبروم" الروسية العملاقة والشركة الصينية الوطنية للنفط والغاز في مايو 2014، لتصبح الصين في عام 2022 بفضل هذا الخط أكبر مشترٍ لموارد الطاقة الروسية بعدما كانت ألمانيا تحتل المرتبة الأولى، إذ بلغت شحنات الغاز الروسي عبر خط "قوة سيبيريا 1" إلى الصين في هذا العام أعلى مستوى وهو 15,5 مليار متر مكعب، ثم زاد الرقم إلى حوالي 21 مليار متر مكعب في عام 2023. ويتوقع بنهاية عام 2025 أن تزيد الشحنات لتصل إلى 38 مليار متر مكعب سنوياً، وهو الرقم المستهدف منذ توقيع الاتفاقية، وهو ما يشكل حوالي 20% من واردات الصين السنوية من الغاز الطبيعي المُسال.
تصاعد الاهتمام الأمريكي والأوروبي بمنغوليا:
لعل ما يغذي تخوُف الصين وروسيا من فقدان نفوذهما في منغوليا، ما قامت به منغوليا في السنوات الأخيرة من اجتماعات ثلاثية مع الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، فضلاً عن اجتماعات أخرى ضمت حلفاء أوروبيين وآسيويين للولايات المتحدة، هذا فضلاً عن زيارة رئيس الوزراء المنغولي، أويون إردين، واشنطن، في أغسطس 2023، ولقائه على هامش الزيارة بمسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى.
في هذا السياق، أدرجت الولايات المتحدة وحلفاؤها منغوليا، في "برنامج الشراكة لأمن المعادن"، في سبتمبر 2022، وهو مبادرة تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان ودولاً متقدمة أخرى، تهدف إلى تقليل الاعتماد العالمي على الصين في المعادن المهمة. وفي يونيو 2023، وقَّعت منغوليا والولايات المتحدة مذكرة تفاهُم للتعاون في تنمية قطاع الموارد المعدنية وحوكمته.
وفي أكتوبر 2022، تعهد المستشار الألماني، أولاف شولتس، بزيادة المشاركة الألمانية في تطوير معادن منغوليا، خاصةً النحاس والأتربة النادرة. وخلال زيارة الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، منغوليا يومي 7 و8 فبراير 2024، قامت أولانباتار وبرلين بترقية علاقاتهما الثنائية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، لتكون ألمانيا أول دولة أوروبية تعلن عن مثل هذه الشراكة مع منغوليا.
كما قام الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بزيارة منغوليا، في مايو 2023، وتعهد بدعم تنمية المعادن الحيوية فيها، ثم قام الرئيس المنغولي بزيارة فرنسا في أكتوبر من العام نفسه، وتم توقيع صفقة بقيمة 1.7 مليار دولار لتعدين اليورانيوم، إذ ستقوم شركة "أورانو الفرنسية للطاقة النووية" بتشغيل منجم "زووفتش أوفو" في جنوب غرب منغوليا، وسيبدأ الإنتاج في عام 2028. وتعتقد الحكومة الفرنسية أن المشروع يُمكِن أن يمثل 4% من اليورانيوم العالمي في المستقبل، واتفقت الدولتان أيضاً على التعاون في البحث عن الليثيوم في منغوليا.
ولم يختلف الأمر بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة من الدول الآسيوية الرئيسية، فعلى سبيل المثال، وقعت كوريا الجنوبية ومنغوليا، في أغسطس 2022، اتفاقية لتعزيز التعاون في قضايا سلسلة التوريد العالمية، مع التركيز على تطوير المعادن النادرة، ثم أعلنت كوريا الجنوبية في أغسطس 2023 عن إطلاق مشروع المساعدة الإنمائية الرسمية لإنشاء سلسلة توريد للمعادن الأرضية النادرة ذات المنفعة المتبادلة.
كما دخلت الهند بقوة كفاعل جديد في المعادلة من خلال شركة مقاولات تابعة لها هي شركة ميجا للهندسة والبنية التحتية المحدودة، التي استطاعت الحصول على عَقْدٍ بقيمة 648 مليون دولار لبناء أول مصفاة لتكرير النفط الخام في منغوليا. ومن المُتوقَّع عند اكتمال المشروع في عام 2025 أن تقوم المصفاة بمعالجة نحو 1.5 مليون طن متري من النفط الخام سنوياً لتلبية الطلب المحلي لمنغوليا على البنزين والديزل ووقود الطائرات والغاز المُسال.
حسابات منغوليا:
تسعى منغوليا إلى تعزيز قطاعات التجارة والاستثمار والتمويل والتعدين والطاقة والبنية التحتية والتجارة الإلكترونية والطاقة الخضراء مع الصين الشريك الرئيسي لها، جنباً إلى جنب مع تعزيز العمل المشترك مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بما يعني مراعاة علاقاتها الاقتصادية أيضاً مع روسيا، الشريك الاستراتيجي الأهم لها في إمدادات النفط.
وتمارس منغوليا في الوقت ذاته "دبلوماسية الجار الثالث"، من خلال علاقات تعاونية مع دول جوارها الجغرافي الآسيوية، مثل: الهند واليابان وكوريا الجنوبية، وانفتاحها في الوقت نفسه دولياً من خلال علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة والغرب بما يحقق مصالحها.
وبناءً على ذلك، حرصت منغوليا على عدم الانضمام لمنظمات دولية يغلب عليها الطابع الأمني تكون تحت قيادة الصين وروسيا، فلم تنضم إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ولم تصبح عضواً كامل العضوية في منظمة شنغهاي للتعاون، حتى رغم المحاولات الصينية والروسية الحثيثة لتقريبها إليهما في هذا الملف.
ويبقى أن منغوليا مقيدة بالجغرافيا والاقتصاد حتى الآن، فالتعدين هو أكبر قطاع اقتصادي لديها، إذ يمثل 72% من الإنتاج الصناعي، و87% من الصادرات، و75% من الاستثمار الأجنبي المباشر، و25% من إجمالي الناتج المحلي. ونظراً للحجم المحدود للسوق المنغولية ونَقْص رأس المال والتكنولوجيا للقيام بأنشطة المعالجة ذات القيمة المضافة، فإنه يتم تصدير 88% من معادن منغوليا دون مُعالَجَة، وتذهب جميع هذه الصادرات تقريباً إلى الصين وحدها.
تعليقات
إرسال تعليق