القائمة الرئيسية

الصفحات

سوزان بيرسو امرأة عظيمة في حياة عميد الأدب العربي

 

بقلم الأستاذ الدكتور عصمت رضوان وكيل كلية اللغة العربية للدراسات العليا والبحوث. 

   من الأمثال المشهورة قولهم: ( وراء كل رجل عظيم امرأة )، وهم يقصدون  بذلك أن قصص النجاح التي يحققها الرجال ، فيصبحون عظماء في أي مجال من مجالات الحياة _  قصص النجاح هذه والتي تُنسب إلى الرجل وحده ،تقف وراءها امرأة لا تقل عنه عظمة، فهي شريكة في بناء المجد ، رفيقة في الكفاح ، مستحقة مع الرجل لتلك العظمة ، جديرة معه بالفخر. 

     وتنطبق هذه المقولة تمام الانطباق على قصة كفاح عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ، فوراء قصة نجاحه امرأة عظيمة هي زوجته  الفرنسية ( سوزان بيرسو ).

  كانت  سوزان هي السبب الأول في تشجيع طه حسين على الحصول على الدكتوراه في فرنسا، وبخاصة أنها كانت تذهب معه دائما للجامعة، وتشجعه على استكمال مسيرة التعليم فى جامعة السوربون، ثم استكملت معه سائر مشوار الحياة، قصة حياة امتدَّتْ قرابة ستين عامًا، واجه فيها طه حسين الكثير من الصعاب والتضييقات خاصة خلال مدة إقامته في فرنسا.

   نشأت ( سوزان بيرسو) نشأةً فرنسيةً تقليدية،

حيث تلقت تعليمه النظامي في فرنسا حتى تخرجها ، ثم اشتغلت بالتدريس في بداية حياتها العملية، لكن تسببت أحداث الحرب العالمية الأولى في تهجيرها مع عائلتها إلى مدينة مونبلييه في جنوب فرنسا. وفي تلك المرحلة — بالتحديد سنة ١٩١٥م تعرفت إلى طه حسين الشاب المصري طالب الدراسات العليا كفيف البصر، الذي كان في حاجة لمن يقرأ له الكتب والمراجع التي تساعده على إتمام دراسته، وكانت سوزان هي من قام له بدور القارئ منذ ذلك الوقت حتى وفاته عام ١٩٧٣م.

  وقد كانت العلاقة الأولى بين سوزان وطه حسين علاقة إعجاب من سوزان بفكر هذا الشاب المصري، الأمر الذي دفعها لأن تساعده وتقرأ له الكتب والمراجع دون ملل .

  وكانت البداية صداقة بريئة، حيث كان يناديها طه حسين في ذلك الوقت "صديقتي" ولم يكن يدري بأن هذه الصداقة تحمل في عمقها حبّا شديدا ، وقصة كفاح مشتركة.

  صارح طه حسين سوزان بحبه لها، ولكن الأمر لم يكن بهذه الصورة السهلة لسوزان، فقد كانت تدرك بأحكام عقلها صعوبة الزواج من إنسان فاقد للبصر، فقالت له :وأنا لا أحبك، وابتعدت، ولكن شعورا ما في داخلها غير نظرتها، حيث اكتشفت أن قوة القلب أقوى من الأمور العقلية، وأدركت سوزان أن للقلب طريقا آخر مخالفا للعقل، وأقوى تأثيرا منه.

   وسرعان ما أعلنت سوزان لأسرتها رغبتها في الزواج من طه حسين الشاب المصري الذي أتى من نشأة وبيئة مختلفة تمامًا عن نشأتها وبيئتها، وكانت أسرتها من المتمسكين بعقيدتهم وتقاليدهم ، ثم إنه كفيف البصر أيضًا، فاعترضت أسرتها بشدة وظلت المحاولات لإقناعهم بإتمام ومباركة هذه الزيجة، وكان لسوزان عمّ يتسم بالحكمة ، طلب الجلوس مع طه حسين فانبهر به، واستطاع أن يقنع أهلها بهذه الزيجة التي تمت بالفعل.

   "بدونك أشعر أني أعمى حقا، أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء"، هذه الجملة الجميلة التي تحمل في ثناياها عمقا وحبا وصدقا، كتبها طه حسين لزوجته معلنًا لها أنها كم كانت فريدة في حياته، وكم كانت بمثابة النور الذي حُرم منه في نفسه وأرسله له الله في إنسان آخر، فقد ظلت علاقة طه حسين بزوجته وطيدة وصادقة مليئة بالحب والتضحيات حتى وفاته.

   وامتد وفاء سوزان لطه حسين حتى بعد وفاته ، فكتبت مذكراتها معه ، وقصة كفاحهما في كتاب أسمته (معك ) ابتدأته بهذه العبارة (إننا لا نحيا لنكون سعداء)  وهي عبارة مشهورة على لسان «طه حسين» افتتحت بها «سوزان» كتابها الذي يلخص قصة حياة امتدَّتْ قرابة ستين عامًا، معه، مع الجانب الإنساني الدافئ لعميد الأدب العربي. 

  لقد شرعت سوزان طه حسين في تدوين هذه المذكرات بعد وفاة زوجها الذي جمعت بينه وبينها علاقة فريدة من نوعها؛ فهو المصري المسلم وهي الفرنسية المسيحية، هو الأديب والمفكر الذي أفنى عمره في البحث والتأليف وهي عيناه اللتان كان يرى ويقرأ بهما العالم، هما الزوجان اللذان لم يحييا حياة عادية، ولم يكن حبهما عاديًّا. 

   سنتان كاملتان من حياتها استغرقتهما كتابة سوزان لهذا الكتاب مستخدِمةً لغتها الفرنسية التي تتقنها، وأرادت له أن يُترجَم إلى العربية ليصل إلى قراء وقارئات العميد في شتى أنحاء العالم العربي، وهو ما تحقَّقَ على يد المترجم السوري «بدر الدين عرودكي» الذي لم يكتفِ بالترجمة التي نُشِرَتْ عام ١٩٧٩م بل أضاف إليها ترجمةً للهوامش والتذييلات الهامة التي أضافها محرِّرَا النسخة الفرنسية الصادرة في ٢٠١١م، وكذلك مُقدَّمَة بقلم أمينة طه حسين، بالإضافة إلى ملحق بالصور؛ ليكون هذا الكتاب سجلا جامعا لقصة حب خالدة ، ورحلة كفاح محفوفة بالصعاب والعقبات ، وليبقى برهانا حيا على صدق هذه المقولة ( وراء كل رجل عظيم امرأة ).

author-img
صحفى يغطى الاخبار والاعلام

تعليقات

التنقل السريع