وقبل أيام، وصلت قوة عسكرية كبيرة إلى محافظة حضرموت، تتبع التشكيل العسكري الجديد الذي يُطلق عليه "قوات درع الوطن"، بعد تدريبها في السعودية، مع أنه يوجد في حضرموت قوات حكومية هي المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت ويقع مقرها في سيئون، وفي جنوبي حضرموت توجد قوات تتبع المنطقة العسكرية الثانية التي تنتشر أيضا في محافظتي المهرة وسقطرى، وكان يُفترض أن السعودية تدعم تلك القوات (الحكومية) لحفظ الأمن في حضرموت وليس تشكيل قوات جديدة يبدو أن استقدامها إلى المحافظة مقدمة لطرد القوات الحكومية منها وأن تحل تلك القوة مكانها.
وإذا كان التوتر الذي تشهده حضرموت يبدو كمبرر للدفع بقوات عسكرية جديدة إلى المحافظة، جراء تهديد المجلس الانتقالي بالسيطرة عليها ورفض الحضارم لذلك، فضلا عن صراع النفوذ بين السعودية والإمارات في المحافظات الجنوبية والشرقية، إلا أن تركيز الدولتين على إنشاء تشكيلات عسكرية سلفية منذ بداية عملية "عاصفة الحزم" وإلى اليوم يثير الشبهات، ويبدو أكبر من كونه مجرد تنافس أو صراع محدود بين دولتين لهما أهداف في اليمن بعيدة المدى، وما التشكيلات العسكرية السلفية إلا أدوات للدولتين تفخخان بهما حاضر اليمن ومستقبله.
- عسكرة الدين وملشنة السياسة
من المفارقات الغريبة أن السعودية والإمارات بدأتا منذ سنوات بتضييق الخناق على مختلف الجماعات الإسلامية فيهما، بما فيها الجماعات السلفية، وتحاصران تلك الجماعات في المجال العام، كتأكيد على انتهاجهما العلمانية ولبرلة المجتمع، لكنهما تسلكان في اليمن أسلوبا مغايرا من خلال تجنيد الجماعات السلفية ودعمها بالمال والسلاح دون تمييز بينها، وعدم الأخذ في الاعتبار أن هناك جماعات سلفية جهادية وثيقة الصلة بالتنظيمات الإرهابية، كما أن بعض الجماعات السلفية المسلحة قد تتحول إلى تنظيمات إرهابية في المستقبل تحت ضغط مستجدات طارئة أو نتيجة تحولات فكرية، وعلى الأقل فإن حصول بعض الجماعات السلفية على المال والسلاح يجعل منها مجرد جسر عبور لنقل الأموال والأسلحة إلى التنظيمات الإرهابية.
علاوة على ذلك، من شأن إنشاء تشكيلات عسكرية سلفية أن يمكّن الجماعات الإرهابية من اختراق هذه التشكيلات جراء التشابه في المظهر والخطاب الديني وطريقة أداء بعض الشعائر الدينية، بدليل أنه سبق أن كشفت تحقيقات لوسائل إعلام أمريكية عن أن السعودية وحلفاءها نقلوا أسلحة أمريكية الصنع إلى مجموعات في اليمن لدى بعضها علاقات مع تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، وأن بعض الأسلحة التي كانت ضمن صفقات سلاح ظهرت لدى تنظيمات إرهابية ولدى مليشيا الحوثيين.
ففي أغسطس 2018، كشف تحقيق استقصائي لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية أن فصائل مسلحة مدعومة من التحالف جندت مسلحي تنظيم القاعدة في اليمن، وتم الاتفاق على انضمام 250 من مقاتليه إلى قوات "الحزام الأمني" المدعومة من التحالف، وذكرت الوكالة أن تلك الاتفاقات تمت بعلم أمريكي وأمنت انسحاب بعض مسلحي القاعدة مع العتاد الذي نهبوه من بعض المدن.
وفي فبراير 2019، كشف تحقيق أجرته محطة سي إن إن الأمريكية عن وصول أسلحة أمريكية زودت بها واشنطن التحالف السعودي الإماراتي في اليمن، إلى تنظيم القاعدة ومليشيات متعددة في البلاد، من بينها مليشيا الحوثيين.
- تهم موجهة للتشكيلات السلفية
تُتهم بعض التشكيلات العسكرية السلفية بالوقوف وراء الاغتيالات السياسية في المحافظات والمدن التي تسيطر عليها، بل فكتائب أبو العباس في تعز تتهم باغتيال جنود من الجيش الوطني أو اختطافهم وقتلهم ودفنهم في أحواش منازل هجرها أهلها بسبب الحرب، وعُثر على جثثهم في أماكن سيطرة تلك الكتائب داخل المدينة بعد طردها إلى ريف تعز.
ومن أبرز المليشيات والتشكيلات العسكرية السلفية التي أنشأها التحالف السعودي الإماراتي في اليمن: ألوية العمالقة المنتشرة في بعض المحافظات الجنوبية والساحل الغربي، وكتائب أبو العباس في تعز، وبعض فصائل ما يطلق عليها "النخب" و"الأحزمة الأمنية"، ومجموعة كتائب سلفية ترابط في الحدود الجنوبية السعودية للدفاع عنها، وأخيرا "قوات درع الوطن".
كان عدد أتباع الجماعات السلفية في اليمن قبل الحرب قليلا جدا ولا يكفي لإنشاء تشكيلات عسكرية قوية، بيد أن الإغراءات التي قدمتها السعودية والإمارات لتلك الجماعات لأجل عسكرتها فتح شهية كثيرين للالتحاق بها، ومن هنا تضخمت تلك الجماعات وتمددت واكتسبت أتباعا كثر تحولوا إلى سلفيين ومقاتلين بأجندة مشبوهة، علما أن بعض رموز التيارات السلفية المعتدلة من علماء ودعاة تعرضوا للاغتيالات في مدينة عدن، وتتهم التشكيلات العسكرية السلفية ومليشيا المجلس الانتقالي باغتيالهم، إلى جانب اغتيال بعض قادة ومنتسبي حزب الإصلاح، وهو ما أكدته تحقيقات إحدى النيابات في مدينة عدن، ويُعد السلفي المتطرف هاني بن بريك المتهم الأول بالوقوف وراء تلك الاغتيالات.
وبما أن الجماعات السلفية في اليمن اشتهرت بالعنف اللفظي ضد مخالفيها في مرحلة ما قبل الحرب، فإن عسكرتها تثير القلق، والخشية من أن تتحول من العنف اللفظي إلى العنف المسلح ضد مخالفيها على نطاق واسع، لا سيما إذا هيمن المتشددون عليها وصبغوها بأفكارهم ونظرتهم القاصرة للدولة والأحزاب والدستور والقوانين والمرأة والفن وحرية التعبير وغير ذلك.
- عسكرة السلفيين لأهداف سياسية
للسعودية تاريخ طويل من التحالف مع الجماعات السلفية بدأ منذ التحالف بين آل سعود والوهابيين خلال حرب آل سعود للسيطرة على بلاد نجد والحجاز وغيرها من المناطق التي تعرف جميعها الآن بالمملكة العربية السعودية، وظلت السعودية تمثل المركز الروحي لمختلف الجماعات السلفية في البلدان الأخرى، بما في ذلك الجماعات السلفية في اليمن التي كانت تتلقى الدعم من نظيراتها في السعودية، وكانت اليمن أرضا خصبة لانتشار الفكر الوهابي في أوساط السلفيين، لا سيما الخطاب الذي يحرم الديمقراطية والحزبية والانتخابات ويشدد على طاعة ولي الأمر "حتى وإن جلد ظهرك وأخذ مالك".
وفي أحيان كثيرة، كان الخطاب السلفي في اليمن يهتم بالسياسية أكثر من اهتمامه بالوعظ الديني، واتسم بعدائه المفرط لحركة الإخوان المسلمين والأحزاب والديمقراطية والانتخابات، وظهرت أشرطة كاسيت وكتيبات تهاجم جامعة الإيمان في صنعاء وحزب الإصلاح وتنال من الرموز الدعوية وعلماء الدين المحسوبين على حركة الإخوان المسلمين مثل الشيخ يوسف القرضاوي وغيره.
وبما أن حكام الرياض وأبو ظبي لهم عداء مع الديمقراطية والانتخابات والأحزاب وحرية الرأي والتعبير، ولا يريدون أن يتحول اليمن مستقبلا إلى بلد ديمقراطي يكون التنافس فيه على السلطة عبر صناديق الاقتراع، خشية من تأثير "عدوى الديمقراطية" على السلطات العائلية الحاكمة في دول الخليج، فإن الجماعات السلفية التي تكفر الديمقراطية والحزبية وتحرم الانتخابات والتنافس السلمي على السلطة، تمثل خير معين وحليف لحكام السعودية والإمارات لوأد عملية التحول الديمقراطي في اليمن بقوة السلاح، في حال انتهت الحرب واستقر وضع البلد، وظل السلاح بأيدي تلك الجماعات.
تعليقات
إرسال تعليق