«أمامنا عشر سنوات للعمل، وبعد ذلك سيكون الأوان قد فات!».
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
إنّ اقترابَ حدوث الكارثة، الذي كثيرا ما نتحدث عنه، يسيطر على علاقتنا بالمستقبل. إنه إحدى العلامات الرئيسية لعصرنا. ويشهد على ذلك استعمالنا مصطلح «الانهيار» في لغتنا اليومية.
هذه الظاهرة الجديدة تدفع الأجيالَ الشابة إلى التحشيد على نطاق دولي. إنهم يتهمون حكوماتهم بسلبيتهم وبانعدام المسؤولية، ويطالبون بأنْ تتوافق السياسات المتّبعة مع توصيات العلماء. وعلى طريقتهم الخاصة، يستنكرون ما وصفه ستيفان أيكوت Stefan Aykut وإيمي دهان Amy Dahan بـ«الانحراف عن الواقع»، ليسلّطوا الضوءَ على الفجوة الهائلة بين المعرفة والعمل.
وبالطبع، فإنّ هذه المشكلة والاعتراف بها ليسا أمرا جديدا. ومن الصعب تخيّل دعوات من أعلى هرم السّلطة السياسية أكثر إلحاحا من قول جاك شيراك سنة 2002 في قمة جوهانسبورغ: «منزلنا يحترق ونحن نبحث في مكان آخر!»، بيد أنّ المشكلة لا تتعلق فقط بتغيّر المناخ. دعونا نفكر، على سبيل المثال، في استخدام مبيداتِ الآفات الزراعية، وفقدان التنوّع البيولوجي، وتلوث الغلاف الجويّ.. في كل هذه الحالات، نحن ندرك خطورة المشكلة، ولكننا غير قادرين على الفعل.
المشكلات الشائكة
يستعمل الناطقون بالإنكليزية مصطلحًا للإشارة إلى مثل هذه المواقف هو «المشكلات الخبيثة للغاية» super wicked problems، أيْ المشكلات الشائكة والتي دون حلّ.
إنّ المنزل يحترق، كما نعلم، ولكنْ لأننا لا نعرف حقًا كيف نتصرّف، فإننا نبحث في مكان آخر.
فكيف نوفق بين المعرفة والقدرة على التوقع والقدرة على العمل؟ وفي أيّ ظرف يمكن أنْ تؤدي معرفة التهديدات إلى التصرّف بطريقة تجنبنا المخاطر؟
إن العودة إلى أطروحة أولريش بيك Ulrich Beck حول «مجتمع المخاطر» تتيح لنا أنْ نفهم بشكل أفضل العلاقات الجديدة بين المعرفة والقوة اللازمة للتغلب على عجزنا الجماعي.
مجتمع المخاطرة
نحن نعرف جيدًا أطروحة عمله «مجتمع المخاطرة، في الطريق إلى حداثة أخرى» Risikogesellschaft: Auf dem Weg in eine andere Moderne، التي ظهرت عام 1986، والتي مفادها أنه عندما حلّ المجتمع الصناعي محلّ المجتمع الإقطاعي في القرن التاسع عشر، كانت نهاية القرن العشرين قد شهدت التحول تجاه مجتمع المخاطرة.. وأنّ القول بأننا نعيش في مثل هذا المجتمع لا يعني أنَّ الحياة كانت ستصبح أكثر خطورة مما كانت عليه قبل قرن من الزمان، ولكنَّ هذا الخطر أصبح منتشرًا في كل مكان.. وأنّ مجتمع المخاطرة يتمّ صنعه في علاقاته بالمخاطر التي يخبرنا «بيك» بأنها مصطنعة. إنها ليست مخاطر وإنما هي ثمرة عمليّة التحديث.
لقد تغيرت المخاطر من حيث طبيعتها وحجمها، لذلك فإنّ المجتمع يواجه بشكل أساسي مخاطر ناتجة عن أنشطته الاقتصادية وعن التقنية.
وفي مجتمع أولريش بيك المحفوف بالمخاطر، يكون العلم متناقضًا. فمثلما هو مصدر للتقدم هو مصدر للخطر أيضا. وهذا لا يعني فقط ضرورة الوعي بحدود العلم، ولكن بشكل أساسي إضفاء الطابع المؤسّسي على الوعي الذاتي (الانعكاسية) الذي يتضمن بشكل خاص تطوير مجموعة كاملة من الأبحاث حول تأثيرات العلم والتكنولوجيا - وأولاً وقبْل كلّ شيء البحث عن تغير المناخ.
مجتمع المجازفة
مع مجتمع المجازفة، سيأتي عصر الحداثة المتبصرّة، أي التي تعي ذاتها، والتي من خاصياتها التشكيك في المؤسسات التي تأسست عليها، وهي الدولة القومية والأسرة النوويّة والعلاقات الدولية ودولة الرفاه ومؤسّسات الديموقراطية وسيادة القانون والمعرفة العلمية.
ويشير «بيك» إلى وجود توتّر بين احتمالين للتطور. من ناحية، إعادة تأكيد قوة المؤسّسات التقليدية، حتى وإنْ كانت في أزمة، وهو ما نلاحظه من جميع الجوانب مع عودة القوميات، وإعادة تأكيد السّيادة الوطنية وصعود الوضعانية الجديدة néopositivisme.
بالنسبة إلى بيك، فإنّ هذا المسار - وهو احتمالٌ لا ينكره - سيؤدي إلى مآزق ومواقف مؤلمة، لأن هذه المؤسّسات المأزومة لا يمكنها تلبية المطالب التي تثيرها.
من ناحية أخرى، لا يمكن القيام بمغامرة نحو حداثة أخرى إلّا عن طريق التجربة والخطأ، عن طريق بدء عمليات تعلّم جديدة، ومن خلال تجربة أساليب أخرى في القيام بالأشياء، لمواجهة عدم اليقين وانعدام الأمن وغموض العالم المعاصر.
علاقة جديدة
في هذه الحالة، سندخل عصر علاقة جديدة مع العلم - علم منفتح على المجتمع ومراع لتأثيراته الثانوية -، وعصر علاقة مختلفة مع السياسة، وبناءٍ للعيش المشترك وللمصلحة العامة خارج الفضاءات السّياسية التقليدية، في المستشفى وفي مختبر الأبحاث وفي الشركة.. إلخ.
وعلى خلافِ ما بعد الحداثيين (أو المحايدين مثل لاتور)، لا يعتبر «بيك» أننا انتقلنا بشكلٍ لا رجعة فيه إلى «عصر الهجين» حيث يتمّ التساؤل بشكل منهجي عن الحدود. وبصفته عالم اجتماع، يعتقد أنّ الحاجة إلى التّصنيف والتمييز وتحديد الأسباب والمسؤوليات هي حاجة ماسة في أيّ مجتمع معقّد. فالحداثة التبصّرية، أي التي تسائل نفسها، ليست تأمينًا. بل هي توتّر يفتح آفاقًا مستقبلية مختلفة ممكنة.
إنّ ما وضّحه «بيك».. هو أنّ العلم، بينما لم يعد يُعتبر المصدر الوحيد الذي لا جدال في سلطته، يرى منافذ جديدة تنفتح أمامه في المجتمع. ففي المجتمعات التي تكون فيها المخاطر الصحيّة والبيئية أكثر بروزًا، تلجأ الفئات الاجتماعية المختلفة بشكل متزايد إلى الخبراء والباحثين.
المبدأ الوقائي
وبالتالي فإنّ «الخوف المساعد على الاكتشاف» والمبدأ الوقائي - خلافًا للفكرة المنتشرة على نطاق واسع - هما محركان قويّان للبحث العلمي.
ومع ذلك، يترك بيك السّؤال مفتوحًا هنا أيضًا، ولا يستبعد احتمال أن تتمّ مواجهة المؤسسة العلمية التقليدية وجهاً لوجه. فتحت ضغط قوى التحول، يمكن للحضارة العلمية والتقنية أن تحول نفسها إلى مجتمع من المحرّمات société des tabous الراسخة علميًا.
في هذا السياق، يحدد «بيك» مسارين متكاملين. الأول هو إيجاد «قيود موضوعية»، من الاستعجال والضرورة (...) تؤسس «محرمات الثبات».
ويتمثل المسار الثاني في العمل على ضبط حدود تقييم المخاطر الذي يخفي التهديدات التي ليس لدى الهيئات العلمية التقليدية إجابة عنها.
ولكنّ توسيعَ نطاق العلم لن يؤدي بالضرورة إلى مزيد من التبصّر والشفافية. بل على العكس من ذلك، يمكن أنْ يتمّ استبعاد أصعب المشكلات.
فـهل سيظل العلم عالقًا في التخصص المفرط.. أم إنه سيتمكن من العثور على قدرة جديدة؟.. وهل سنكون قادرين على إعادة الاتصال بالقدرة على التعلم فيما يتعلق بالتأثيرات العمليّة أم سنستمر في خلق مواقف لا رجعة فيها تستند إلى افتراض العصْمة؟ وهل سيتمّ تفسير المخاطر والتهديدات بطريقة منهجية ملموسة.. أم سيستمر التقليل من شأنها وإخفائها؟
تعليقات
إرسال تعليق