توالت الأيام وتعاقبت الليالي، وأهلّ هلال ذي الحجّة، وعشنا -بفضل الله- ستّة أيام من العشر الأولى من هذا الشّهر الحرام، أفضل أيام الدّنيا.. ووالله إنّها لنعمة عظيمة ومنحة جزيلة أن تحلّ هذه الأيام ونحن بين الأحياء نمتّع بالصحّة والعافية، وفي وسعنا أن نقدّم أعمالا صالحة يرضاها الله ويعتق بها الرقاب ويُعظم بها الأجر والثّواب. فكم من الأموات من يتمنّى يوما واحدا من هذه الأيام، بل ساعة واحدة يُظهر فيها فقره إلى الله وحاجته إلى عفوه ومغفرته.
كما هو عهد الأيام الفاضلة؛ انقضت ستّة أيام من العشر المباركة سريعا، ولكن ولله الحمد لا تزال أمامنا أربعة أيام أفضل من التي مضت.. أيام هي أفضل أيام العشر، وأفضل أيام الدّنيا، فيها أركان الحجّ وأهمّ مناسكه، وفيها تنقل الكاميرات صورا تدمع لها القلوب المؤمنة، لحجيج بيت الله الحرام وهم يحرمون ويلبّون وإلى المشاعر يتّجهون.. شعائر ومشاعر تنقلها الكاميرات من الأماكن الطّاهرة والبقاع المقدّسة، لكنّ هناك مشاعر وشعائر لا تقف عليها كاميرات التّصوير في أرض الله الواسعة لأحوال عباد لله مؤمنين، منهم من يبكي شوقا للحجّ الذي ظلّ ولا يزال ينتظره سنوات وعقودا من عمره، ومنهم من يصوم ويهلل ويكبّر ويقوم ويتصدّق ويدعو مولاه الكريم دعاء العبد الذّليل المحتاج إلى عفو مولاه.
إذا كنّا قد حرمنا أن نكون في الأيام القادمة المشهودة مع الحجيج بأبداننا، فينبغي أن نكون معهم بقلوبنا وأرواحنا.. ينبغي لقلوبنا أن تخفق ولأرواحنا أن تهفو.. ينبغي أن نهلّل ونكبّر، وندعو ونرجو ونرغب.. فالأيام القادمة ليست أياما فاضلة للحجّاج وحدهم، بل هي أيام مشهودة لعباد الله المؤمنين في كلّ مكان.. فلا يليق أن تمرّ بنا كما تمرّ سائر الأيام! قال ابن رجب الحنبلي: “هذه أيـّامٌ جعلها الله مشتركة بين السّائرين والقاعدين، فمَن اغتنمها في بيتِه؛ كان أفضل ممن خرج للجهاد من بيته”.
يومَ الإثنين القادم، ستكون الأمّة على موعد مع يوم فضيل من أيام الله، يوم التروية، يومٌ يحرم فيه الحجاج بالحج من أماكن إقامتهم بمكّة، بعد أن يتجردوا من المخيط والمحيط ويلبسوا ثيابا تذكّرهم بلباس الرحلة الأخيرة، يبيتون في منى على صعيد متواضع، الناس كلهم فيه سواسية، صعيد يذكّر بالمقابر وأحوال أهلها، وبِضُعف العباد وفقرهم لخالقهم وحاجتهم إلى رحمته.
منًى ظاهرها واحد، لكن شتان بين سعي أهلها؛ فقد يكون الرجلان متجاورين في ذلك الصعيد، لكن بين سعيهما كما بين السماء والأرض؛ أحدهما قلبه معلق بالسماء يتذكّر القبر وغربته وينتظر عرفة بلهف وشوق، ويبكي راجيا عفو خالقه.. والآخَرُ قلبه معلق بالدنيا، قلِق من الزّحام والضّيق، ينتظر على أحر من الجمر أن تنتهي أيام الحجّ ليعود إلى أهله!
كان الحجيج في أزمنة مضت يرتوون من الماء في يوم التروية استعدادا ليوم عرفة، وهم في هذا الزّمان لم يعودوا في حاجة لذلك، لكنّهم في حاجة إلى إيقاظ قلوبهم وهزّها لتكون حيّة وحاضرة ويقظة في ساعات يوم عرفة المشهودة.. وليس الحجّاج وحدهم من يحتاجون لتهيئة قلوبهم لعرفة، فكلّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في حاجة لذلك، لأنّ يوم عرفة ليس للحجيج وحدهم، إنّما هو لكلّ المسلمين يوم عتق ومغفرة للذّنوب وتحقيق للأمنيات وإجابة للدّعوات.
تعليقات
إرسال تعليق