اثنا عشر عامًا مرت منذ أن دمرت الحرب الأهلية سوريا واقتصادها، فتلك التي كانت في السابق بلدًا واعدة متوسطة الدخل وموطنًا للمواهب الذكية، دمرته الحرب التي أودت بحياة 300 ألف مدني، وأثقلته هجرة الأدمغة بسبب فرار الملايين من الأوضاع الأمنية وظروف الاقتصاد المتردية والمستمرة في التردي. فقد تدهورت العملة المحلية وارتفع معدل التضخم فيها من 4.75 في المائة في عام 2011 إلى 139 في المائة في عام 2020.
وكان القرار بفرض العقوبات بمثابة ضربة عنيفة أطاحت بركائز الاقتصاد السوري المتهالكة أصلاً، لتتحول البلاد التي كانت ذات يوم دولة مصدرة للنفط والمنسوجات والمنتجات الزراعية إلى أكبر منتج ومصدر في العالم للكبتاغون، وهو مادة تنتمي إلى عائلة العقاقير المعروفة باسم "الأمفيتامينات"، وتُعد حاليًا المنتج المفضل لمتعاطي المخدرات في الشرق الأوسط. كانت الرغبة في الحد من إنتاج الكبتاغون أحد الدوافع الرئيسية لجامعة الدول العربية التي رحبت بعودة سوريا إلى حرمها هذا الأسبوع،
وقد أحيت تلك الخطوة بعض الأمل لدى شريحة صغيرة من رواد الأعمال السوريين، الذين قاموا في ظل غياب الفاعلين الأساسيين العالميين والإقليميين للتكنولوجيا ببناء حلولهم الخاصة للسكان. استهدفت معظم أنشطة ريادة الأعمال ذات الصلة بسوريا فئة اللاجئين السوريين في الدول المجاورة. فعلى سبيل المثال قدمت المؤسسات المحتضنة للمنافسات والمسابقات والمنظمات الأخرى من أمثال Startups Without Borders وBINA Business Incubator وJusoor التمويل لمؤسسي أعمال سوريين مقيمين خارج سوريا، إلا أنها في ذات الوقت خصصت جزءًا يسيرًا من المساعدة لرواد الأعمال في سوريا، واستثنتهم منها في أغلب الأحيان.
شعب تحت وطأة العقوبات
غالبًا ما يكون قطاع البيع بالتجزئة في النظم البيئية التكنولوجية الناشئة هدفًا للتغيير الجذري والرقمنة في البداية. وتتمثل الخطوة الأولى في السماح للأشخاص بشراء البضائع عبر الإنترنت، ويستخدم المشترون طريقة الدفع نقدًا عند استلام هذه البضائع والسلع عند غياب البنية التحتية للتكنولوجيا المالية.
أسس أحمد نحاس في عام 2017 أول سوق للتجارة الإلكترونية في سوريا باسم “حربوء”، ويربط هذا السوق الشركات والتجار بالمستهلكين. وقد واجه نحاس عندما واجه بمشروعه هذا جميع التحديات النموذجية التي تظهر عند بناء وإطلاق منتج تقني في سوق لا يزال في بداياته، إلى جانب الصعوبات الأخرى التي سببتها الحرب والعقوبات. وأدت القيود المفروضة على الاستيراد إلى انعدام القدرة على الوصول للمنتجات وارتفاع تكلفة السلع.
وحول ذلك يقول نحاس: "سوريا ليست بدولة صناعية تعتمد على المنتجات التي تصنعها، لذا، من الضروري استيراد معظم المنتجات والسلع. من بين التحديات الرئيسية التي تواجهنا نقص البضائع في السوق، مما يزيد من صعوبة تقديم الخدمات لعملائنا بطريقة صحيحة. ومع ذلك، أعتقد أن هذا الوضع سيتغير في السنوات القادمة، وسنعود مجددًا لاستيراد البضائع بسهولة أكبر".
تقول رانيا الكنج، مؤسسة “I Love Syria”، وهي علامة تجارية للأزياء والمجوهرات تبيع مباشرة للمستهلكين، إن العقوبات لم تحد من قدرتها على استيراد المواد اللازمة لصنع منتجاتها فحسب، بل أدت أيضًا إلى تجميد حساباتها وإيراداتها على منصات التجارة الإلكترونية العالمية مثل Etsy وeBay.
وفي حديثها لومضةـ قالت الكنج التي تدير ورشة لتصميم الأزياء دعمًا للنساء النازحات في سوريا: "بسبب العقوبات المفروضة على سوريا، نضطر إلى خوض عملية طويلة تتطلب رسومًا إضافية وجهدًا أكبر بكثير لتحويل عائدات بيع منتجاتنا في الخارج،” وأوضحت أنه في كل مرة تحتاج فيها إلى تحويل الأموال إلى سوريا، يتعين عليها أن تجد شخصًا ينوي السفر إلى لبنان، ومن لبنان يمكنها أن تطلب من بعض الأصدقاء وأفراد العائلة نقل الأموال بمبالغ صغيرة إلى سوريا.
البنية التحتية للأعمال
إلى جانب العقوبات، أدى الافتقار إلى البنية التحتية إلى إعاقة التقدم في هذا المجال، حيث يعاني السوريون من نقص الكهرباء، كما أن معدل انتشار الإنترنت في سوريا هو من بين أدنى المعدلات في المنطقة حيث يبلغ 35.8 في المائة فقط، كما يملك أقل من ربع المواطنين البالغين حسابات بنكية.
ويعني ذلك بالنسبة للفاعلين في التجارة الإلكترونية أن 99 بالمائة من المدفوعات تتم نقدًا عند الاستلام، مما يُسهم في نشوء مجموعة أخرى من التحديات تتعلق بذلك تحديدًا.
يقول كنان الزيات مؤسس تطبيق "وصّلني": "بدأت البنوك في إصدار بطاقات الائتمان منذ خمسة أشهر فقط، وقبل ذلك كان عدد الأشخاص الذين يستخدمون المحافظ الرقمية التي توفرها شركات الاتصالات قليلاً جدًا".
كما علّق أحمد نحاس قائلاً بأن الحكومة السورية أطلقت حملة العام الماضي لتشجيع الناس على الانتقال إلى نظام المدفوعات عبر الإنترنت.
وأضاف: "قدمنا خدمة الدفع عبر الإنترنت لسوقنا منذ ثلاثة أشهر فقط من خلال خمسة بنوك في سوريا. ويوجد حاليًا ثلاث بوابات خاصة للدفع [فقط] تتيح التسوق عبر الإنترنت.”
ولمعالجة مشكلة الدفع عند الاستلام، أطلقت منصة حربوء خدمة تسليم الميل الأخير “Last Mile Delivery” للتعامل مع الطلبات المرتجعة، والسيطرة على خدمة ما بعد البيع وإدارة المدفوعات النقدية الخاصة بها. كما تقدم منصة حربوء خدمة تسليم الميل الأخير للبائعين الآخرين عبر الإنترنت أيضًا.
وفقًا للزيات، أصبحت خدمة تسليم الميل الأخير أكثر شيوعًا في المدن الكبرى، مما أدى إلى نمو التجارة الإلكترونية وخدمات توصيل الطعام، ولكن في ذات الوقت يواجه القطاع حاجزين رئيسيين.
ويقول: "يتمثل الحاجز الأول في مشكلة الوقود وندرة إمدادات البترول في سوريا، والسبب الآخر هو الحظر المفروض على قدرة الدولة على الاستيراد، مما أدى إلى ندرة السيارات المستوردة في السوق، فأحدث سيارة يمكن رؤيتها في الشوارع عمرها على الأقل عشر سنوات، الأمر الذي يتطلب صيانة بتكلفة مرتفعة، لذلك يرفض الناس العمل باستخدام سياراتهم الخاصة".
ندرة المتخصصين
امتلكت سوريا قبل اندلاع الحرب مجموعة لا بأس بها من المواهب التقنية، إلا أن نزيف العقول اللاحق جعل من الصعب للغاية على الشركات الناشئة العثور على المواهب المحلية، فقد فر بالفعل عدد كبير من المطورين الموهوبين، ويميل المتبقي منهم إلى العمل لحسابهم الخاص لدى شركات أجنبية برواتب لا يمكن لأي شركة ناشئة في سوريا تقديمها، وذلك وفقًا لما قاله نحاس. لذلك ينتهي الأمر بمعظمهم بتعيين مطورين مبتدئين وتدريبهم داخليًا.
التحدي الرئيسي الآخر الذي يواجه مؤسسي الأعمال السوريين هو نقص رأس المال المتاح أمامهم، لا يوجد مستثمرون مؤسسيون أو شبكات من مستثمري المراحل الأولية “المعروفين أيضًا باسم المستثمرين الملائكة”، ويوجد فقط حاضنة واحدة يديرها بنك البركة (تكوين) تعمل في الدولة.
ومع ذلك، ووفقًا لما أشار إليه مؤسسو أعمال تحدثنا إليهم وفضلوا عدم الكشف عن هويتهم، فقد وجد أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية من لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي وتركيا وإيران طريقهم لتمويل الشركات الناشئة السورية، وذلك من خلال وكلاء لديهم صلات بالحكومة أو شخصيات متنفذة لتهريب الأموال. وفي ظل غياب الأطر القانونية، فإن هذه العملية محفوفة بالمخاطر.
وأشارت الكنج إلى أن معظم المؤسسين لجأوا إلى استخدام مدخراتهم الخاصة التي تمكنوا من جنيها خلال سنوات عملهم في الخارج، أو إلى أفراد الأسرة والأصدقاء أو المبالغ الصغيرة التي يحصلون عليها من الأمم المتحدة لدعم الأعمال التجارية، وقالت بأن "ذلك لا يمثل مصدرًا مستدامًا لتأمين استمرارية العمل".
بارقة امل
إن تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع بقية دول العالم العربي قد يخفف من وطأة بعض الصعوبات التي تواجه سوريا.
ويبين سام بلاتيس الرئيس التنفيذي لشركة "مينا كاتاليستس" (MENA Catalysts)، وهي شركة مختصة بتمكين التوسع في الأسواق: "تطور الاقتصاد السوري أمر غاية في الأهمية، فالرقعة الجغرافية لسوريا تفوق إسرائيل وفلسطين والأردن ولبنان مجتمعين، وهي موطن لحوالي ضعف سكان الإمارات العربية المتحدة. مما يصعب معه على شركات التكنولوجيا العالمية تجاهل حجم سوق المستخدمين الإجمالي".
ووفقًا لمؤسس منصة “حربوء”، المخاطر المرتبطة بسوق متعطش وغير مستغل مثل سوريا كبيرة، ولكن عائد الاستثمار مرتفع أيضًا بالنظر إلى ضعف أو حتى غياب المنافسة.
ويتبنى روبرت موغيلنيكي، باحث أول مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، وجهة نظر أكثر اعتدالًا.
ويعلق موغيلنيكي على ذلك قائلاً: "إن إعادة الارتباط الدبلوماسي الإقليمي مع سوريا لن يفتح بالضرورة أبواب الاقتصاد على مصراعيها. حتى لو أصبح الاقتصاد السوري من الناحية النظرية أكثر انفتاحًا نتيجةً لما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال إعادة الاندماج الإقليمي على المستوى السياسي، فمن الصعب رؤية الطلب على فرص الاستثمار في سوريا من الناحية العملية. هناك تحديات داخلية ناشئة عن سنوات من الحرب، يُضاف إليها البُعد المتعلق بالعقوبات الخارجية. ويعني ذلك أن درجة المخاطر السياسية المرتبطة بالاقتصاد السوري مرتفعة بشكل غير معقول".
لكن بالنسبة لمؤسسي الأعمال، لا يزال هناك بارقة أمل تلوح في الأفق.
يقول الزيات: “نتعامل مع ظروف اقتصادية متضررة بسبب الخسائر الفادحة المتكبدة نتيجةً للحرب التي امتدت لسنوات والعقوبات التي فرضها الغرب. نحتاج أولاً إلى اقتصاد مستقر، ومن ثم يمكننا البدء والانطلاق من هناك".
تعليقات
إرسال تعليق