في غمرة زمن القيامة المجيدة، وزهو فصل الربيع الزاهر، وفوح أطياب العيد الكبير، نال الشمّاس إدمون الجميّل، سرّ الكهنوت المقدّس في 12 نيسان سنة 1959، بوضع يد سيادة المطران يوسف الخوري، في كنيسة مار يوسف في جامعة القديس يوسف (اليسوعيّة) في بيروت، واتّخذ إسم هامة الرسل، وعمّه الكاهن (المتوفّى عام 1949)، "بطرس"، فكانت بداية كنسيّة مبارَكة في مسيرة الكاهن الجديد، أنعشت "البيعة المارونية" وهزّت أجرارها المخبّأة، لتفيض خمرًا ولبنًا وعسلاً شهيًا!
بدأ تألّق المطران بطرس الجميّل (1932-2021) وسعيه الحثيث للعمل والعطاء، منذ دخوله الإكليريكيّة في غزير (1946)، ثم الجامعة اليسوعية في بيروت (1953)، ثم عمله كأستاذ فيها (1963)، وفي جامعة الروح القدس-الكسليك (1969)، والجامعة اللبنانية (1973)، الى دخوله اللجنة الطقسيّة في ستّينات القرن العشرين، وترؤسّه إيّاها بتعيينه من البطريرك مار نصرالله صفير (1920-2019) بين عامي 1988 و2012 وتحقيقه أهمّ الإنجازات الطقسيّة فيها؛ كذلك برز في خدمته الكهنوتية في الرعايا، وأبرشية قبرس-أنطلياس، ثم في جزيرة قبرس التي أصبح مطرانها سنة 1988 وحتى سنة 2008، وعمله في البطريركيّة المارونية كحافظ لمكتبتها (1963)، ونشاطه المميّز في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي شارك في إحدى جلساته في روما سنة 1963.
من بلدته الوادعة عين الخرّوبة، الى رعيّة مار ضومط التي خدمها السنين الطوال (1963-1988)، الى جزيرة قبرس، والى أي بلد زاره، بنشاط وتواضع وحماسة وشجاعة، حمل الوزنات الكثيرة، الخوري بطرس الجميّل ثم المونسنيور ثم المطران، وهو الأستاذ والباحث والمؤلّف، والعامل البارع في أكثر من حقل، فكان رائد نهضة وتجديد، لا تزال لمساتها وصداها الى اليوم، في عشرات المشاريع والأعمال المباركة، سواء على الصعيد الفكري أو العملي، في شتّى الحقول الليتورجيّة والرعويّة والكنسيّة والاجتماعيّة والعمرانيّة والمعرفيّة.
ليس هذا المقال سردًا لسيرة المطران بطرس الجميّل الحافلة بالإنجازات، بل نتوقّف فيه فقط عند بعض ميزات لافتة في شخصيّته الإستثنائية التي طبعت مسيرته المميّزة، ومن خلال هذه الميزات نُضيء على الوجه القيامي في شخصيّته الرائدة والمتألّقة، والتي تجلّت في عطاءاته وإنجازاته إبّان خدمته الكهنوتيّة والأسقفيّة في خدمة الكنيسة وشعبها.
1-شخصيّة إستثنائيّة تتميّز بدِقّة الإنجازات وعمق المعاني: ننذهلُ أمام شخصيّة المطران بطرس الجميّل في ما كتبه وعلّمه وأنجزه وصنعه، وهذا ما يقودنا الى انجذابنا نحوه! فإنجازاته في التأليف المعرفي والكتابة البحثيّة ليست فقط مهمة وعميقة وغنيّة وأساسية سواءًا في مواضيعها أو عباراتها وفصولها التي هي بغاية التنسيق والدقّة العلميّة، بل أكثر من ذلك: إنّ كل كلمة كتبها المطران بطرس الجميّل، بالمعنى الحرفي الدقيق وليس بمعنى العبارة والجملة الكاملة، لها أهميّتها ودلالتها ووقعها وعمقها وارتباطها التاريخي العلمي والليتورجي العميق وبحثها الواسع في كل ما كتبه وقصده. ونقول هذا نظرًا لخلفيّته العلميّة والمنهجيّة، فهو المتخصّص في التاريخ من الجامعة اليسوعيّة-بيروت، قبل أن يتخصّص بالليتورجيّا ويصبح أوّل دكتور فيها سنة 1963 متخرّجًا من روما، وعائدًا الى لبنان لخدمة الكنيسة وشعبها والعمل على تطبيق مقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني وانطلاق مسيرة التجدّد.
ليس ما تركه لنا المطران بطرس الجميّل من إرث مكتوب مطبوع هو مجرّد نصوص علميّة منسّقة وجاهزة، بل هي من عمق أعماق المعاني والمعرفة البحثية والإدراك الشامل، تعكس غناه العلمي الواسع، وحرصه على تقديمه للناس، بطريقة مبسّطة وسهلة غير معقّدة، مع الحفاظ على الدقّة العلميّة التامة. ولا يسري هذا الأمر على مؤلّفاته الخاصة، والمشتركة فحسب، بل حتى على الكتب الطقسية المارونية الرسمية، التي دبّج مقدّماتها بشروح تعكس الغنى البحثي والموسوعي والعلمي الدقيق لكاهن متمرّس وحبرٍ جليل أفنى حياته في البحث والإطلاع في سبيل الحقيقة والمعرفة، فصبّ خبراته الكثيرة في سبيل الإصلاح والتجديد، فكانت أصداء الأعمال الرصينة، في مختلف المشاريع التي نفّذها من رعويّة وكنسيّة وإداريّة وعمرانيّة واجتماعيّة ومجالات متعدّدة.
هذه الميزة، تضعنا باقتناع ووعي تامَّين، أمام شخصيّة عميقة الثقافة والمعرفة، تذهلنا وتجذبنا في ما صنع من إنجازات، وتثير فينا الإعجاب لمن يدرك المعاني العلميّة العميقة! فما قام به المطران بطرس الجميّل كان أساسيًا تأسيسيًّا، وليس مرحليًا عابرًا، حيث ابتغى إنعاش روح الصمود والاستمرارية في ما خطّط له وحضّر من أجله ونفّذه بنجاح!
2-شخصيّة تتميّز بالغَيريّة: يُخطىء مَن يعتقد أو يظنّ أنّ المطران بطرس الجميّل وضع كتاباته ومؤلّفاته في سبيل إرضاء ذاته وتحقيق شهرة ما أو لغاية شخصيّة محدودة، أو قام بأيّ عمل من أجل منفعة خاصة. ومُخطىء أيضًا مَن يظنّ أنّه حصر نشاطه في العمل الليتورجي سواء في البحث والعلم والتعليم والتطبيق على أهميّة هذا العمل الذي أتقنه خير إتقان، وكان من روّاده الطليعيين!
فنحن هنا أمام ميزة مختلفة وانذهال جديد: إنّه الشخصيّة الغَيريّة، الذي كرّس حياته وعلمه ونشاطه ومواهبه وطاقاته وفكره وعمله من أجل الغير. وما هو هذا "الغَير"؟ ومن هم؟ إنّهم الكنيسة، والرعيّة، والشعب، والإنسان، والكاهن، وجماعة المؤمنين!
حمل شجون الناس وهمومها، فبادر الى تقديم العون، وتأمين الحاجات، وإنجاز الاستحقاقات، وتحمّل المسؤوليّات، ومواجهة التحدّيات، ومعالجة الأزمات، أينما حل! كان كل ذلك في إطار مُتقَن، نابع من أنّ المطران الجميّل أجاد أفعال التعاون والتعاضد، وثقافة التلاقي والحوار، فصبّ بأخلاقه الرفيعة فعل تواضع عميق في عمله الدؤوب الغَيري والجذّاب والمميّز!
غيريّة المطران بطرس الجميّل انعكست على كل ما صنعه، فلم يعمل شيئًا لنفسه: من الإصلاح الطقسي، الى التعليم الجامعي، الى نشاطه الرعوي الكهنوتي والاسقفي، الى كل انجازاته ومشاريعه وأفكاره وطروحاته؛ كلّها طبع فيها الغَيرية، في خدمة لا متناهية، ومحبة لا تعرف الحدود!
إنّها ميزة رسوليّة كبطرس هامة الرسل، ورِساليّة كالرسل الإثني عشر، يحمل البشرى والإيمان، بثقة الإدراك وشجاعة المبادرة وجرأة التحدّي وتفاني العمل ونُبل المبتغى، لتحقيق كل خير وخدمة!
من هنا، لم يكن المطران الجميّل فرديًا متفرّدًا، بل عمل من أجل الجماعة، وتعاون مع الجماعة، في خدمة الجماعة، عبر الهدف المنشود دومًا، أي: خدمة الشعب، وتلبية حاجاته وتطلّعاته، الروحيّة والزمنيّة، الطقسيّة والإجتماعيّة، رغم الهموم والصعاب. وكانت هذه الغَيريَة في غاية الإتقان، وهذه ميزة ثالثة سنتكلّم عنها.
3-شخصيّة تتميّز بفنّ الإتقان: شخصيّة المطران بطرس الجميّل الاستثنائية التي تتّصف بدقّة الانجازات وعمق معانيها، والغيريّة في العمل والتطبيق، تبرز لنا في شخصيّته ميزة ثالثة وهي الإتقان.
ففي أعماله الكثيرة وإنجازاته الكبيرة، على الصعد كافة، تميّز عمل المطران الجميّل بالإتقان اللافت، لا بل في غاية الإتقان، رغم أنّ عمله كان في أصعب الظروف وأدق المراحل. فلنتأمل في كتبه التي أصدرها، أو في الكتب الطقسية التي درسها ودبّج مقدّماتها وعمل على نشرها مع المتخصّصين، أو في النشاط الرعوي والأسقفي والتعليمي والبحثي والإجتماعي الذي خاض غماره. كلّها تشعّ من بهاء عمله المتقن، ليكون ذا قيمة وفعاليّة وتحقيق المرام. وما هذا الاشعاع المتألّق سوى انعكاس لاشعاع عقله وروحه وفكره وحيويّته العابقة بالعلم العميق والعمل النقي في هذا الإتقان المميّز والجذّاب!
فأمام عمله الغَيري الكبير والكثير، لم يكن متسرعًا ولا مُتباطئًا، بل كل ما صنعه كان ناجحًا، وجَميلاً، ومهيبًا، ورائعًا! وفي ذلك ما يعكس بصمات فكره النيّر وبُعد النظر ودقّة الهدف وعمق التصميم ووضوح الرؤية!
تواضع كالقديس يوسف، وعطاء وإتقان على مثاله، كالأبرار في كل ما يصنع ينجح! فكان إتقان العمل يتجلّى ويظهر في ما أعطاه من أفكار وإنجازات وإرث وطروحات ومشاريع ومهمّات! وما علينا اليوم، سوى قطف الثمار اليانعة والشهيّة، والتلذّذ من هذا البستان الخصيب الذي زرعه، بإتقان تام، أشجارًا باسقة وزرعًا مباركًا!
قد ينهمك الانسان بهموم كثيرة ومسؤوليّات كبيرة، كما كان المطران الجميّل في مسيرته الحافلة بالإنجازات والتحدّيات، ولكنّه لم يخفق في ما عمله وأنجزه، بل ظهر في غاية الإتقان والروعة والنجاح! وهذا يعكس شخصيّته المتألقة بالمواهب والطاقات الاستثنائية والصفات المميّزة.
في الخلاصة، برزت شخصيّة مثلّث الرحمة المطران بطرس الجميّل -الحاضر أبدًا في أذهاننا وعقولنا بأعماله الرائدة وإنجازاته الباهرة- بصفات إنسانيّة مميّزة، تعكس الوجه القياميّ الذي تألّق به في خدمة الكنيسة والوطن، الشعب والرعيّة، البشر قبل الحجر، فكان مثالاً باهرًا ونشيطًا معطاءًا وجريئًا في الكهنوت والأسقفيّة، وقدوة في الخدمة وحاجاتها ومجالاتها الكثيرة!
في كل ما صنعه وأنجزه، كانت نفحة الرجاء والثقة والإرادة يعبق أريجها بشذا القيامة، فَوحًا مباركًا في زمن مليء بالحاجات والأزمات! فكانت أعمال رائدة وكتب خالدة وأبحاث رصينة ومنشورات قيّمة، ومشاريع أقيمت تحتضن أطُر أساسيّة لتجديد الحياة الروحية لإنسان اليوم على صعد كافة.
بصماته لا تمحى ولن تمحى! بل علينا أن نُخبر الجيل الطالع والآتي، عن هذا الحَبر المِقدام والأسقف الشجاع والمطران المجاهد، حتى يستقوا منه الفضائل الحميدة والصفات الحسنة والعلم الصحيح، يكون قدوة ومنهلاً يفخرون به ويتعلّمون منه ويعلّمون مَن حولهم، ويثبتون وينمون في ما تعلّموه!
ونختم بالقول: المطران بطرس الجميّل وردة فوّاحة عطرة، زُرع بعناية جليلة في حقل الرب يسوع المسيح، فزيّن روضة الكنيسة المارونية، وفاح عرفه الطيّب، ولم يذبل زهوه! بل ضمّخ شذاهُ الزكيّ أنفاسَ كلّ من استنشق تلك الأطياب، بين نسائم الغاب وهدوء الحقول!
المطران بطرس الجميّل، عمل بكدّ وتعب في كرم الرب وحقله، فاجتهد بزرع الكروم الأصيلة والأشجار المعطاءة، وشذّبها من كل ضرر، ففاضت خيرات وافرة وأثمارًا شهيّة، وحفظ منها الأصول الصالحة، لكي نجني منها أفضل الغلال، على مرّ الأزمان!
المطران بطرس الجميّل، أهراءٌ ضخمة لنا، خَزَنَ للكنيسة وشعبها، أجودَ نفائس الإرث والتاريخ، وصان الكنز الغالي من العثّ والفساد والإفساد، فبقيت كاللآلىء تشعّ زاهية، وتُطعم من خيرها الثمين كلّ الجائعين، من دَسم الحياة الإيمانية الصحيحة المبارَكة!
في هذا الزمن الصعب، والقاتم بالأزمات والتحدّيات، يُشرق علينا كهنوت المطران بطرس الجميّل، مُشعًّا كَنُور قيامة المسيح، ليُنهض فينا القوّة، ويمحو اليأس، ويهزم الكآبة، ويبعث الفرح، ويُنمي العزيمة، وتتلألىء النِّعَم! ليوقظ فينا كما الربيع، ورود الرجاء ونسائم المحبة وأنفاس الإيمان! ليُبعِد عنا الكسل والقنوط والوَهن، ويتحدّى القحط والمستحيل رغم الأزمان الرديئة والدهور العتيّة!
لقد تجلّى كهنوت المطران بطرس الجميّل، نورًا في الحقيقة، وقدوةً في القيم، وربحًا في الوزنات، وجمالاً في المواهب، فأظهر في كهنوته مجدَ انتصارِ قيامة الرب يسوع المسيح الذي غلب الموت، وحرّرنا من كلّ خطيئة وانكسار!
كهنوت المطران بطرس الجميّل، ليس كهنوتًا مقدّسًا وأسراريًا وكنسيًا فحسب، بل عاش كهنوته بملء الإتقان وحُب الغير، في شخصيّة مطبوعة بالمواهب الفكريّة والعلميّة والعمليّة والاستثنائية في التطبيق والإنجاز، تضعنا في الإعجاب في ما أتقنه، والإنجذاب الى ما صنعه، والغبطة في ما أنجزه، خدمةً للكنيسة وشعبها!
هو كهنوت التكرّس الكامل والإنقياد التام للعمل الشريف والشهادة الصادقة، من خلال قيم سامية تمثّلت في الشجاعة والمثابرة والإقدام، والأمانة والوفاء والحُب والعطاء! هو كهنوت الفرح والرجاء، يُملىء النقص، ويُعلي البنيان، ويُوطّد الأسُس!
هو كهنوت القيامة والانتصار لمواجهة كلّ نقص وضعف وموت وانكسار، فشعّ ضياءُ كهنوته عِلمًا وقداسة، ونوّر به العمق الروحاني والثقل التاريخي والجهد التطبيقي في مجالات العمل التجديدي.
على غرار الأحبار الكبار، البطريرك العلّامة مار اسطفانوس الدويهي والمطران إبن القلاعي، وغيرهما، ومثل مار يوسف حامي العائلة المقدسة، حمى البيعة المارونية في إرثها وتراثها، فكتب وعلّم ووضّح وأسّس لآفاق واسعة للعمل والتطبيق. ومن كنيسة مار يوسف لليسوعيين، وبوضع يد المطران يوسف الخوري، كان إسم يوسف البتول، حاضنُ يسوع ومريم، حاضرًا في المثال، ومنارًا في المسير، وشفيعًا في العمل بالجدّية والصمت، بالنقاء والتواضع، بالبذل والبراعة!
ها نحن اليوم –للأسف- نعيش في زمن من الزيف والميل للأهواء والإضطراب والخوف والتردّد والفشل! لَكَم نحتاج الى فكر المطران بطرس الجميّل النيّر وأعماله الرائعة، نعطّر فيها هذا العالم المملوء إثمًا وإحباطًا ووهنًا، علّنا نُعيد الفردوس البهيّ الذي عمل لأجله، وصانه عن كل عيب وتعدّي، وجعل أهليه يفرحون ويزهون في مرتع الأحلام التي لا تخيب، والهناء الذي لا ينضب، والحقيقة التي لا تموت!
أليوم وفي ذكرى كهنوت المطران بطرس الجميّل، وعشيّة ذكرى بدء الحرب اللبنانية الأليمة (13 نيسان 1975)، يطلّ علينا وجه المطران الجميّل، بما عاشه من أزمات ومآسي مع شعبه في لبنان وقبرس، ولن يضعف إيمانه ولا جهده ولا سعيه لكل خير وسلام. عسانا بهذا الوجه القيامي الصافي المنوّر، أن يُشعّ علينا فجر قيامة جديدة لوطننا المنهار لبنان، لينهض شعبه من المآسي التي يمرّ بها، ويأتي على مثال المطران الجميّل من الصالحين والغيورين على فعل الخير، يدحرجون الحجر عن ظلمة القبر المطبقة على شعب لبنان وأهله المقهورين والمظلومين، ليرحل السواد، ويحلّ النور، سلامًا ومجدًا وانتصارًا!
تعليقات
إرسال تعليق