لطالما كانت الحروب والنزاعات أكبر تهديد لاستقرار السودان الذي يعيش حالة حرب داخلية منذ ما قبل استقلاله الذي ولد جريحاً في 1956، جرحاً جعله يصارع على مدى نحو سبعة عقود من الزمان بحثاً عن ضالته في السلام والاستقرار.
الشرارة الأولى
منذ شرارة التمرد الأول في 18 أغسطس (آب) 1955، جرى حتى اليوم توقيع ما يقارب 35 اتفاقاً وبروتوكولاً للسلام في محاولة لإنهاء الحروب الداخلية التي أنهكت اقتصاد البلاد ونسيجها الاجتماعي، وصولاً إلى اتفاق سلام جوبا الموقع في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، الذي قد لا يكون آخر تلك المحاولات. فما وراء تكرار ولادة حركات مسلحة تقود تمرداً جديداً تظهر على أثر كل اتفاق يوقع؟ ومتى تنتهي هذه الدوامة الجهنمية؟ وما السر وراء إبرام اتفاقات تتبخر وتموت بالتقادم؟ وهل ضل السودانيون طريقهم إلى سلام مستدام؟
ولفت خاطر إلى أن ثورة أكتوبر 1964 مثلت المناسبة القومية الأعظم في السودان للتعبير عن المظالم الإقليمية، قادها رواد مستنيرون من الشباب للثورة سلمياً ضد المركزية، وبالفعل، تجمعت تلك الرايات تحت تحالف سياسي عريض في 1968، تحت مسمى مؤتمر القوى الجديدة، مشيراً إلى أن تلك الجهود السياسية ظلت تقف سلمياً في مواجهة العنف، وضد الانقلابات العسكرية من أجل السلام القابل للاستدامة وبتأييد واسع من الشباب والنساء.
دارفور وجوبا
أضاف الباحث في مجال السياسة والسلام "بعد انفصال جنوب السودان أعلنت دارفور عن نفسها كحالة أولى للتفاوض من أجل السلام، وامتدت مفاوضات دارفور من اتفاق أبشي 2004 مروراً بأبوجا 2006 وحتى وثيقة الدوحة 2011 ثم أخيراً اتفاق جوبا لسلام السودان الذي جمع دارفور إلى المنطقتين (جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق) وشرق وشمال ووسط السودان، إذ التقت كل أقاليم البلاد على حقيقة أن الظلم التنموي مصدره السلطة المركزية في الخرطوم". واعتبر أن اتفاق جوبا للسلام مهما كانت الاختلافات حوله فهو يمثل من الناحية الموضوعية تطوراً نوعياً للمفاوضات بين ذوي الحقوق والحكومة الوطنية في السودان، إذ للمرة الأولى ينتظم التفاوض بين الأطراف في بيئة مشجعة تتجه نحو ديمقراطية لإنجاز السلام كهدف استراتيجي لاستعادة المبادرة للدولة السودانية، فعلى رغم اختلاف أطراف السلام في أهدافها الجانبية، فإنه ليس خلافاً يفضي إلى التآمر على السلام نفسه، كما حدث من قبل وفي اتفاقيات سابقة.
ماذا بعد اتفاق جوبا؟
على صعيد متصل، أشار رئيس حركة وجيش تحرير السودان (الثورة الثانية)، الموقع على اتفاقية سلام دارفور (الدوحة) 14 يوليو 2011 مع حكومة الرئيس المعزول عمر البشير، أبوالقاسم إمام، إلى أن ظاهرة حركات النضال والكفاح لن تنتهي إلا بانتهاء المظالم التاريخية ومن ثم استدامة السلام وتنتهي الانقسامات بكل ما تحمله من علل وعلات، لأنها ستتحول إلى أحزاب في ظل وجود دستور متوافق عليه.
ورجح إمام أن اتفاق جوبا لسلام السودان الموقع في أكتوبر 2020 لن يكون الأخير ما لم يخاطب أساس وجذور الأزمة السودانية، بخاصة أن ظاهرة إدمان الفشل في السودان باتت مزمنة، بالتالي لن تحقق الثورات أهدافها، وعزا رئيس حركة تحرير السودان (الثورة الثانية) ظاهرة تكرار توقيع اتفاقيات سلام بسبب البنية الهشة للتنظيمات السياسية منذ فجر الاستقلال.
واعتبر إمام أن دوامة التمرد والحركات سببها عجز القوى السياسية الداخلية الذي بات يشكل تهديداً حقيقياً لعملية السلام الشامل ويجدد مخاوف تكرار العنف. ورأى أن العلاج يكمن في إعادة بناء الأحزاب السياسية علي أساس الفكرة والبرنامج بقيادة جماعية، والتخلص من ظاهرة أحزاب الأشخاص أو الأفراد بمدرستها القديمة التي لم تعد تواكب ولا تصلح لهذا العصر، لافتاً إلى أن غياب دستور دائم في هذا البلد منذ الاستقلال حتى اليوم وما يتبعه من قوانين، كان له أثر كبير في تنظيم أنشطتها. أضاف "كان عدم الاستقرار السياسي الذي لازم البلاد سبباً أساسياً في غياب استقرار نظام الحكم وزعزعة الأمن والسلام وتعثر التحول الديمقراطي، إذ تحول السلام الكامل الشامل إلى مجرد شعار سياسي لكثير من الأحزاب، بدلاً من أن يكون عملية وسلسلة مترابطة تبدأ بالعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، وهو ما لن يتأتى إلا من خلال عقد اجتماعي جديد لبناء دولة نعيش فيها بسلام عبر حوار سوداني خالص والتفكير نحو أفق المستقبل وفك الارتباط من أسر الماضي".
اتفاقات وحركات
وتوالت اتفاقات ومؤتمرات السلام التي تخاطب نزاعات وحروباً وحركات مسلحة، أبرزها مؤتمر المائدة المستديرة في جوبا 1965، واتفاقية أديس أبابا مع قادة التمرد في جنوب السودان 1972، وإعلان "كوكا دام" 1986، ومبادرة السلام السودانية (الميرغني - قرنق)، واتفاق القصر 1988، ومؤتمر الحوار حول قضايا السلام 1989، ومؤتمر نيروبي 1991. وضمن هذا الرصد كان إعلان "فرانكفورت" عام 1992، الذي شكل نقلة نوعية بإقراره لأول مرة مبدأ الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، تلته سلسلة مفاوضات "أبوجا" (سبع جولات) 1993، وإعلان مبادئ "إيقاد" (1993 - 1994)، ومؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية 1995، ومبادرة "إيقاد" 1995، واتفاقية الخرطوم للسلام 1997، ومبادرة "إيقاد" يوليو (تموز) 1997 واتفاقية "فشودة" ملحق اتفاقية الخرطوم، وإعلان طرابلس (ليبيا) 1999، واتفاق جيبوتي 1999، والمبادرة المصرية - الليبية المشتركة 2001، وبروتوكول "مشاكوس" 2002، واتفاق وقف إطلاق النار بجبال النوبة 2002، ومذكرة "ناكورو" (إيقاد) 2003.
وشكلت اتفاقية "أبشي" 2003 أولى محاولات وقف إطلاق النار بدارفور مع بروز بداية الأزمة بالإقليم، ثم هناك اتفاقيات القاهرة 2005، واتفاقية نيفاشا 2005، وأبوجا 2006، وأسمرا مع جبهة الشرق 2006، واتفاقية أبوجا لسلام دارفور 2011، والاتفاق الإطاري (نافع - عقار) 2011، واتفاقية الدوحة لسلام دارفور 2011، وإعلان باريس بين الجبهة الثورية وحزب الأمة 2014، واتفاق نداء السودان 2015، وخريطة الطريق الأفريقية 2016.
ومع توقيع كل تلك الاتفاقات التي يرتبط معظمها بحركات دارفور نجد في الوقت نفسه ازدياداً كبيراً في الحركات الحاملة للسلاح في دارفور التي كان عددها عند اندلاع النزاع في الإقليم حركتين فقط، لكن عددها تزايد إما بفعل الانشقاقات أو بولادة حركات جديدة بلغت الآن نحو 83 حركة تقريباً.
تشجيع التمرد
وأشار الباحث في مجال السياسة والسلام عبدالله آدم خاطر إلى أنه بمتابعة مسارات اتفاقات السلام بالسودان عقب كل نزاع من النزاعات الداخلية المسلحة التي كانت قد بدأت مبكراً في صيف 1972 باتفاقية أديس أبابا برعاية إقليمية دولية، وعلى رغم أنها قد أفضت إلى سلام دام 10 سنوات، فإنها شجعت في ما بعد عناصر أكثر قدرة على التمرد على الدولة، فكانت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق المؤمن بوحدة السودان، غير أنها أدت، بعد جولات عدة من المفاوضات الإقليمية الدولية، إلى اتفاق تقرير ما كان يعرف بجنوب السودان لمصيره وإعلان ذاته دولة مستقلة في 2011.
وانتقد خاطر السلوك التفاوضي للأطراف السودانية بخاصة ضعف الخبرة السودانية في تحديد نقاط الاختلاف ومعالجتها في سياق الاتفاقيات، وأحياناً كثيرة تتراجع عن النصوص عند تطبيق الاتفاقيات ومتابعتها وتقويمها، بما يجعل الأطراف في حاجة إلى الرعايات اللصيقة من المجتمعين الإقليمي والدولي، وهو ما قد يوفر مع منابر التفاوض فرصاً سلبية تزيد من عدم الثقة بين الأطراف السودانية، وقد تؤسس لخسارات مستقبلية في علاقات السودان مع الأسرة الدولية سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً.
عجز المركز
وتابع خاطر "مع تأكيد اتفاقات السلام باكراً وحدة السودان، إلا أن الإدارة المركزية الوطنية للسودان لم تسمح بتطوير شروط الوحدة لتصل إلى السلام القابل للاستدامة، إذ إنه في أي وقت ارتفع فيه صوت أو بندقية في مواجهة مركز السلطة بالخرطوم، كان وراء ذلك سبب غير منكر ولا سيما المظالم التنموية وعدم تحقيق الذات (الهوية)، تماماً كما كانت الحال مع جنوب السودان أول مرة في 1955".
تعليقات
إرسال تعليق