القائمة الرئيسية

الصفحات

ليلة النصف من شعبان ، وأقوال العلماء في معنى الشحناء بقلمدكتور عصمت رضوان

  إن ليلة النصف من شعبان من الليالي العظيمة التي يمنُّ الله عزوجل فيها على عباده بالمغفرة والرحمة .
وقد ورد هذا المعنى في حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عدد من الصحابة، 
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن )).
  لكن يُلاحَظ أن الحديث استثنى من المغفرة المشرك والمشاحن ، أما المشرك فمعروف أمره _ نعوذ بالله منه _ ، وأما المشاحن ففي تفسيره خلاف ينبغي الوقوف على تفاصيله ، ذلك أن الحرمان من المغفرة أمر جد خطير ، وخسران _ لو يعلم الناس _ كبير. 
 إن الشحناء بمعنى البغض والكراهية لبعض الناس أمر لا يكاد يسلم منه أحد ، ولا يكاد يخلو منه صدر ، لاسيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه الخلافات والأحقاد بين الأقارب والجيران وزملاء العمل وغير ذلك. فهل كل شحناء تمنع من المغفرة ؟
وما المقصود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مشاحن" في الحديث ؟

   اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: الـمُـشاحِن: هو "صاحب البدعة".
وهذا قول بعض السلف، فهو مرويٌّ عن: الأوزاعي، وأبي خليد.
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: عَنِ الْحَجَّاجِ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يُفَسِّرُ الـمُـشاحِن بأنه :(كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ فَارَقَ عَلَيْهَا أُمَّتَه).

القول الثاني:
المُشاحِن: الذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهو رواية أخرى عن الأوزاعي -رحمه الله-.

القول الثالث:
المُشاحِن: التارك لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- الطاعن على أمته، السافك لدمائهم.
وهذا قول ابن ثوبان ، فعَن عميرِ بنِ هانىءٍ قَالَ: سأَلْتُ ابنَ ثَوْبان عَن المُشاحِن؟ فقالَ: (هُوَ التَّارِكُ لسُنَّةِ نبيِّه -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- الطاعِنُ على أُمَّتِه، السَّافِكُ دِماءَهم).

قال الإمام "ابن رجب الحنبلي" -رحمه الله-:
( وهذه الشحناء –أعني: شحناء البدعة- توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم: كبدع الخوارج والروافض ونحوهم؛ فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعنَ على سلف الأمة، وبُغْضَهم، والحقدَ عليهم، واعتقادَ تكفيرهم، أو تبديعهم وتضليلهم، ثم يلي ذلك سلامة القلب من من الشحناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنهم يقولون: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: ١٠].

القول الرابع :المشاحن: المخاصم المعادي لأخيه المسلم لغير سبب ديني.
وهذا قول الجمهور، وعليه أكثر الشراح .

والحاصل أن العلماء اختلفوا في معنى الـمُـشاحِن على أقوال:

الأول أنه صاحب البدعة.

الثاني أنه هو الذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الثالث أنه التارك لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- الطاعن على أمته، السافك لدمائهم.

الرابع أنه المخاصم المعادي لمسلمٍ لغير سببٍ شرعيٍّ.

وقيل غيرُ ذلك، وهذه هي أشهر الأقوال.
والراجح هو قول الجمهور: بأن المراد بالمشاحِن: ( المخاصم المعادي لمسلمٍ لغير سببٍ شرعيٍّ ).
بدليل ما جاء مُفسَّرًا في بعض الروايات:
 فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللهَ يَطْلُعُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْلِي الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ ) .
وفي رواية: ( وَيَتْرُكُ أَهْلَ الضَّغَائِنِ وَأَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ ).
ولأن هذا هو مُقتضَى اللغة، فالمشاحن في اللغة هو: "المعادي" .

 قال ابن الأثير : والمشاحن هو المعادي، والشحناء العداوة والتشاحن تفاعل منه.
وقال المناوي في فيض القدير: لعل المراد البغضاء التي بين المؤمنين من قبل نفوسهم الأمارة بالسوء.
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: مشاحن أي مباغض ومعادٍ لأحد لا لأجل الدين .
  
وبهذا يتبين أن الشحناء التي تحول بين العبد وبين مغفرة الذنوب في تلك اليلة هي العداوة والبغضاء لأجل حظوظ النفس وشهواتها، وأما التي تكون لأجل الله تعالى كبغض أهل المعاصي المصرّين عليها أو المجاهرين بها فهذه لا تدخل في الحديث .
 فإن كانت العداوة لأجل حظوظ النفس وشهواتها فليبادر المسلم إلى إزالتها بالصلح مع من يكرههم وبالعفو والمسامحة لهم ،ولا يكون التصالح بمجرد العفو فقط، بل لا بد من قطع الهجر بين المتشاحنين ، ووصل ما انقطع معهم من الوشائج والصلات.
 ولا شك أن هجر رفيق السوء أمر مشروع ولا يدخل في الشحناء المانعة للمغفرة.
وإذا كان السبب الرئيسي لمشاحنة الشخص هو حظ النفس وليس لأنه رفيق سوء أو غير ذلك من الأمور التي أباح الشرع الهجر لأجلها، فإن هجره ومشاحنته حينئذ يدخل في الخصام والهجر المنهي عنه.
  فعلى المسلم أن يصلح سريرته ويطهر قلبه في هذه الليلة المباركة، وأن يصل من قطعهم من أهله وأولي أرحامه، وأصدقائه وجيرانه حتى تناله الرحمة، ولئلا يحرم من المغفرة .
 اللهم اجعلنا في هذه الليلة المباركة من أهل مغفرتك ورحمتك ، ولا تحرمنا أجرها ، ولا تمنعنا خيرها .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

             عصمت رضوان
                         
author-img
صحفى يغطى الاخبار والاعلام

تعليقات

التنقل السريع