نصلي أن تكون سلسلة الزلازل والهزات وارتداداتها قد توقفت مع نشر هذه السطور التي أكرسها لمحبي الحياة وعشّاق الرجاء والأمل في كل مكان وخاصة الجارين الشقيقين تركيا وسوريا. تبقى في المحن منح تذكرنا بما هو أهم من خلافات سياسية عابرة، فالأتراح أحيانا تجمع ما فرقته الأفراح بمغانم سياسية أو اقتصادية إلى زوال.
لكن حتى في خضم "زلزال القرن" لم ينته مخاض كارهي الحياة، منظري الحقد والكراهية والشر والموت. كم كان مؤسفا تسييس البعض لهذه الكارثة، فيما يسابق الخيّرون من العالم قاطبة، الزمن في مد يد الغوث والعون لآلاف مؤلّفة من الأجسام الغضة والهشة والهرمة التي لم ترحمها قنوات ومنصات ما يسموه "قصف جبهات"، كناية عما يظنوه دحضا "إفحاما" للطرف الآخر (العدو).
قنوات ومنصات "التسييس والتديين" والتحشيد، لم تحترم أنين الناجين، ولا زفرات الراحلين وشهقات المكلومين، وأصروا على تشتيت الرأي العام الذي كان بالإمكان تحويله إلى صحوة ضمير شعبية ورسمية عالمية، تنصب على أولويات الإغاثة وإعادة التأهيل وإعادة الإعمار -لا لما دمره زلزال القرن فقط- بل ولما دمرته الاثنا عشرية السوداء التي أزهقت آلاف الأرواح في تركيا وسوريا والدول التي ابتليت بـ "الربيع العربي" المشؤوم.
ثمة بوارق أمل، تمثلت بما يمكن تسميته حث الخطى لتطبيع سوري عربي وربما سوري تركي وأبعد من ذلك. زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى سلطنة عمان الأسبوع الماضي قد تكشف عما يعزز ما دار حول زيارتي وزيري خارجيتي الأردن والإمارات إلى دمشق، ولقاء على مستوى رفيع مرتقب بين السعودية وسوريا، ربما بدت ملامحه بتصريح وزير الخارجية السعودي في مؤتمر ميونيخ حول "واقعية" طرح إنهاء "العزلة" مع دمشق.
هذا سياسيا، وقد جاء منسجما مع إشارات دبلوماسية ميدانية تمثلت بقرار واشنطن تعليق بنود "قانون قيصر" لستة أشهر فيما يخص تقديم الغوث والعون للمنكوبين السوريين. وكذلك "الجوار" المكاني و"التقاطع" الزمني الذي حصل في المطارات التركية ومسارح عمليات الإنقاذ بين أطراف بينهم مقاطعة أو قطيعة سياسية كما حدث بالنسبة لفرق الإنقاذ والإغاثة الإسرائيلية على سبيل المثال والإيرانية والجزائرية والمغربية.
لكن حادثة كتلك الخاصة بـ "لفائف كتاب إستر" المخطوطة التاريخية التوراتية في كنيس بأنطاكيا، وبعض مروجي نظريات المؤامرة تذكر الجميع بجانب آخر من الإغاثة وإعادة التأهيل وإدارة الأزمات، مازال إما مغيبا عن الرأي العام، أو غافلا حتى عن أنظار بعض الجهات الرسمية في بعض دول الإقليم المعرضة لخطر شمولها في هزات وارتدادات جديدة لـ "زلزال القرن".
وهنا أطرح سلسلة افتراضات كأمثلة أراها واجبة الاستعداد في حال وقوعها لا قدّر الله: هل شكلت الدول والمناطق المعنية غرف عمليات وطنية ومناطقية وأخرى إقليمية مع جميع دول شرق المتوسط؟ لنا مثال حي من حرائق الصيف الحرجية وقد أثبتت ألا حدود للكوارث؟ هل أوعز الساسة للإعلاميين في دول الإعلام الموجه -صراحة أو ضمنا- بضرورة نبذ نظريات المؤامرة واستغلال بعض النصوص الدينية من أي دين كان، لتصنيف الضحايا بين مستحق للعقاب-ومؤمن مبتلى؟! هل يتم إسكات أبواق التحريض والكراهية، حتى إن اضطرت فرق إنقاذ الهلال الأحمر والصليب الأحمر ونجمة داوود الحمراء من العمل كتفا بكتف ويدا بيد لا تتعرض للأذى أو الإعاقة عن أداء الواجب الإنساني؟ هل تم تضمين النشاطات اللامنهجية للمدارس والجامعات على إجراءات الإخلاء والإسعاف الأولي؟! هل تم توعية الناس بكيفية التعامل مع مصادر الطاقة والتدفئة والشراب والأكل في حال الكوارث والطوارئ؟
أما القضية الأكثر حساسية فهي صون الأماكن المقدسة والمنشآت الخطرة والحيوية خلال الكوارث. تلك مسؤولية جماعية أول المعنيين بها هم الناس. تلك لحظة "كاشفة" كما يقال. لحظة قد تنهي حقبا بأكملها من الاقتتال والعداء والكراهية والجهل. بهذا يكون باطن المحن منحا، يمنحنا بها سبحانه فرصة لإعادة النظر في أمور كثيرة غفلنا أو تغافلنا عنها.
تعليقات
إرسال تعليق